التصويت خير من القيلولة

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
26/05/2013 06:00 AM
GMT



أدار الرجل البدين رأسه يميناً وشمالاً بالطريقة التي تُختتم بها الصلاة، ورمى عقب سيجارته، بتصويبة ماهرة، نحو الشارع، ثم عدّل عمامته البيضاء، واستدار عائداً إلى الجامع. أربك طنين مكبّرات الصوت تيارات الهواء قبل أن يتنحنح البدين، ويسلّم على الرسول، وآله، وأصحابه، والتابعين إلى يوم الدين. بعدها رفع درجة الخشوع في صوته وقال:
- إخواني وأخواتي، أدعوكم من منبري هذا إلى أن تتوجهوا فوراً إلى صناديق الاقتراع لأداء فريضة التصويت لانتخابات مجالس المحافظات. إخواني وأخواتي، إنكم بتصويتكم تطيعون أمر الله في إحقاق الحق، وترفعون الظلم عن الناس، وتختارون الأصلح ديناً، وسمعةً، ونزاهةً، والأكثر حرصاً على أموال المسلمين. إخواني وأخواتي، تغلّبوا على كسلكم، فالتصويت خير من القيلولة، وهو من طاعة الله ورسوله، وسيكتبه الله لكم حسنة مضاعفة في سجل أعمالكم. لنذهب جميعاً للتصويت يرحمكم الله. لنذهب جميعاً للتصويت يرحمكم الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
لم يكن المؤذّن البدين هو الوحيد الذي وجّه هذا النداء الإيماني بين صلاة الظهر والعصر في العشرين من نيسان، فكل الجوامع القريبة فعلت ذلك بتتابع، إلا أن المدرسة الكبيرة التي تحوّلت إلى مركز اقتراع، مع ساعات الصباح، بقيت الحركة فيها قليلة، والجنود الذين ينتشرون في الشوارع بكثافة معزّزة بالآليات المصفحة غلبهم الخمول، وركنوا إلى الظل.
مع انكسار شمس اليوم الاول من بدء الحملة الانتخابية، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عن انزعاجها من الأنباء الواردة من جنوب العراق في شأن حرب تمزيق الإعلانات. الشكوى جاءت من مرشحين مستجدّين سارعوا إلى نشر صورهم بكثافة منذ اليوم الأول، واضطروا بعدها إلى إنفاق المزيد من الأموال لتعويض صورهم التي طالتها السكاكين وعبثت بها الأيدي. القادة الكبار لم تظهر صورهم في الشوارع مبكراً. إنها الخبرة، وربما المكر التنافسي، والاستعلاء الباذخ. حافظوا على برستيجهم إلى أن نالت الثقوب من صور المرشحين وشوّهتها الأصباغ وكساها الغبار. عامل الخبرة وإن ظهر بجلاء بين الصغار والكبار، إلا أن ذلك لم يؤثر في جذب الناخب الذي يريد، من كل قلبه، أن يأخذهم الله جميعاً، ولا يراهم في الانتخابات المقبلة.
الساعات الأولى من فتح باب التصويت أصابت الجميع بالقلق بمن فيهم مفوضية الانتخابات نفسها التي راحت تكثّف بثّ إعلاناتها التلفزيونية على أمل تحريك الوجدان الوطني. القلق أصاب أيضاً رجال الدين الشيعة الذين هم أكثر ثقة من زملائهم السنّة، الأمر الذي دفع المرجع الديني الأعلى السيد علي السستاني إلى نشر بيان بعد صلاة الظهر لحضّ الناخبين على الذهاب إلى مراكز الاقتراع بعدما خذل الناخب كل الأمال والتوقعات. هذا الموقف الغريب من المواطن البسيط جعل زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر يعاتب الشعب العراقي لـ"عزوفه" الشديد عن المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات و"خذلانه" القيادات الدينية والوطنية التي وقفت مع المظلومين في مواجهة الفساد والإرهاب والعنف والطائفية والديكتاتورية. عدّ قلة المشاركة "استهانة" بالشعارات والمواقف التي يتبنّاها، هو شخصياً، في مكافحة "الفساد والطائفية".
أكثر من ثمانية آلاف مرشح نشروا صورهم في الشوارع. لا يوجد فيهم مَن لم يقل إنه ضد الفساد والطائفية. كلهم توعّدوا الفساد والطائفية بالإبادة والتنكيل والمحق، إلا أن الناخب بقي في بيته وأمضاها في شرب الشاي، ومتابعة قنوات الأفلام، والدراما. وحدهم الشباب الذين وصلوا تواً إلى السن القانونية أخذت تدغدغهم شهوة ممارسة أول فعل انتخابي في حياتهم. عدّوها قضية بلوغ أكثر منها قضية محاربة للفساد وطائفية. مفوضية الانتخابات كانت ذكية جداً في هذه النقطة لأنها وظّفت ألوف الشباب للعمل في خدمة الاقتراع في المراكز الانتخابية مقابل أجور مغرية وصلت إلى 200 دولار، وهؤلاء ساهموا في جذب أصحابهم، ومعارفهم، وعوائلهم إلى مراكز الاقتراع لكن القسم الكبير منهم لم يُدخلوا أصابعهم في المحابر، واكتفوا بالتقاط الصور.
في تلك الأثناء كان التلفزيون الحكومي يكثر من بثّ صور الأصابع البنفسجية. صبايا محجّبات يرفعن أصابعهن المحبّرة وعلى وجوههن ابتسامات تغري بالمشاركة. الصور في الحقيقة تعود إلى انتخابات سابقة، وقضية الإصبع البنفسجية التي يشهرها الناخب تكررت بملل إلى درجة انها جلبت نتيجة معاكسة، فقد أخذت تثير الغرائز، وتشجع على البقاء في البيت.
صور قادة الكتل الكبار ظهرت في الشوارع قبل أيام قليلة من موعد الاقتراع، وعندها تجلّى الفارق المادي والفني واضحاً بين الصغار والكبار، فقد نزلت صور القادة بإعلانات طرقية مدعومة بهياكل حديد متينة، وأحتاج تثبيتها إلى جهد هندسي أربك المرور. كانت كبيرة، وعالية، تصوّر القادة وهم يقومون بحركات تلويحية تشي بالجماهيرية، وقوة التأثير، لكن ما إن جاء الليل حتى تسلقتها أصابع العبث، ونكّلت بها تمزيقاً، وتشويهاً، وما بقي منها في الصباح يشبه ما بقي من صحيفة قريش حين اقتحم عبد الله غيث الكعبة، في فيلم "الرسالة"، بغية تمزيق صحيفة مقاطعة بني هاشم، وبني عبد المطلب، فوجد أن الأرضة أكلت الصحيفة، ولم يبق منها سوى "باسمك اللهم"، وهذا ما جرى لصور القادة أيضاً، فقد أكلتها السكاكين ليلاً، ولم يبق من بعضها سوى كلمة "طائفية"، أو "فساد".
قسم من الذين حشدوا طاقاتهم من أجل خوض معمعة الانتخابات اختاروا شكلاً دعائياً نمطياً يتمثل في الانحناء لراية الوطن، ووضع اليد على منطقة القلب. ظنّوا أن هذا سيكون مقنعاً، ولكن هذا النمط الدعائي كان الأشد ضرراً في حرب تمزيق الاعلانات الانتخابية.
أعرف صحافيا اتصل تلفونيا ببرلمانية من أجل أخذ رأيها في شأن أزمة سياسية حاصلة، فردّ عليه زوجها قائلا إن البرلمانية مشغولة الآن، وحين اعتذر الصحافي، وأراد إنهاء الاتصال قال الرجل:
- لحظة لا تروح، أنا زوجها ويمكنني أن أجيبك عن السؤال.
ظاهرة تدخل الازواج بانت بوضوح في انتخابات مجالس المحافظات، ويبدو أن الأعراف الاجتماعية حكمت على الأزواج عدم نشر صور زوجاتهم في الشوارع والساحات العامة، لذلك انتشرت الكثير من الصور لرجال بكروش، وشوارب مفتولة مع عبارة تقول: انتخبوا زوجة فلان الفلاني، من دون الإشارة الى اسمها والاكتفاء بالرقم الانتخابي. إلا أن من الأزواج من هو أقل ثقافة ووعياً، فنشر صورته وكتب تحتها: انتخبوا فلانة الفلانية.  
حين كان المؤذّن البدين يقول من ميكرفون الجامع إن التصويت خير من القيلولة، سمعه ابرهيم وعلي وهما يحتسيان الشاي في المقهى الصيفي المجاور للبارك.
سأل علي بخمول:
- هل ستلبي نداء الجامع وتذهب لتنتخب؟
ردّ ابرهيم وهو يحرك جمر نارجيلته:
- لا أستطيع، فأنا من شاربي الخمر كما تعرف.